بالقلم الرصاص

لأنّ كثيرًا من الناس يجهلون خفايا الصراع بين القوى الاستعمارية وأصحاب الأرض (زعامات أزيـاء القبائل) في حضرموت، فإنّ السبب يعود إلى أنّ بريطانيا عندما فكّرت في إخضاع حضرموت، بحثت بين الزعامات القبلية (الأزيا) عبر سماسرة ودراويش مهاجرين محسوبين على الحضارم، لكي تجد زعيمًا قبليًا تُنصّبه ملكًا أو سلطانًا على حضرموت لتنفيذ مشروعها الاستعماري. ورغم كل المغريات المادية والعسكرية التي عرضتها قديمًا، لم تجد زعيمًا قبليًا يقبل أن يقوم بدور (الحاكم العميل)، لأنّ القبائل في حضرموت عريقة أصيلة، متقيّدة بمواثيق ومعاهدات تاريخية موثّقة بحدود مرسومة، وتربطها عادات وسوالف متعارف عليها بين القبائل. لذلك يستحيل على أي زعيم قبلي حضرمي أن يقبل بتنصيبه من قِبل إمبراطورية استعمارية أميرًا أو سلطانًا أو ملكًا على باقي القبائل والأزيا الحضرمية الأصيلة، كما لا يمكن أن تقبل به بقية القبائل أو تخضع له مهما بلغ حجم المغريات.

لهذا التجأت بريطانيا إلى جلب ضابط (حضرمي) برتبة حكيمدار من أصول يافعية، وفرضته سلطانًا على مدن وأرياف الساحل والهضبة الحضرمية، وجلبت معه عساكر منقولين على البوارج البحرية من خارج حضرموت (مرتزقة) مجهّزين بالمال والسلاح والعتاد البريطاني لإخضاع القبائل وفرض (الحكيمدار) سلطانًا عميلًا للاستعمار رغماً عن أنف القبائل وزعاماتها الحرة. فاندلعت حروب المقاومة بالأسلحة البدائية غير المتكافئة مع سلاح العدو وإمكاناته المهولة. ومع ذلك خاضت القبائل حروبًا وملاحم؛

فقبائل الحموم في جبهات الشرق، وقبائل سيبان في المَدحر، وقبائل نوح في عقبة حوطة، سجّلوا ملاحم بطولية في حروب مقاومة ضد الأجنبي وأدواته من المرتزقة. دامت هذه الحروب أكثر من عشر سنوات قبل أن تتدخل الوساطات لإيقافها بالتسويات، بعد أن أنهكت أدوات المستعمر كما أنهكت القبائل. فجاء اشتراط القبائل أن يكون جيش السلطنة بقيادة وأفراد من أبناء القبائل حتى يُسمح بانتشاره وتحركه داخل الحدود التاريخية للقبائل، وبشرط أن يكون حكّام الولايات حضارم من أصحاب المؤهلات، أو من سلطنة عُمان، والمدرَّبين من الأردن. فكان الخروصي عُمانيًا، وكبير المدربين للجيش العميد عبدالله السعدون أردنيًا.

وكأنّ الزمان يُعيد نفسه…

اليوم، المواجهة في حقيقتها بين أصحاب الأرض (القبائل) وبين أدوات المستعمر البريطاني في حضرموت. الفارق أنّ بريطانيا هذه المرة تستتر خلف القفاز الإماراتي الذي عبره تحاول مجددًا تركيع أصحاب الأرض بعد أن فشلت كل المغريات في شراء ولاء زعيم حلف قبائل حضرموت، زعيم قبيلة زي الحموم، الشيخ عمرو بن علي بن حبريش العليي الحمومي.

فلو أنّه قبل، لأُعطي له قصرٌ فخم في أبوظبي، ومزايا وامتيازات كامتيازات عيدروس الزبيدي وربما أكثر بكثير، إضافة إلى الجنسية الإماراتية وغير ذلك. لكنّ الرجل أثبت أنّه زعيم بحجم حضرموت التاريخية، وقال لهم (لا). وهذه الكلمة لم يجدوا من يقولها اليوم. فعجزوا كما عجزوا قديمًا مع الآباء، وهم اليوم يعجزون مع زعامات الأبناء من القبائل الحضرمية الأصيلة. ذلك لأنّ القبلي الحضرمي الأصيل يستحيل شراؤه بالمال، ولو مقابل تنصيبه سلطانًا أو ملكًا على حضرموت، إذ سيكون في نظر باقي الأزيا الحضرمية خائنًا للمواثيق والعهود القبلية بين أصحاب الأرض.

وها هم يعودون بمحاولاتهم، معتمدين على بقايا المستوطنين والوافدين من الحرفيين والعمال، ومخلّفات نظام الرفاق الماركسيين، بالمغريات والشعارات الكاذبة باسم استعادة دولة الجنوب ذات الثلاثة والعشرين خريفًا. والتحق بهم المنتفعون من قوى الأحزاب اليمنية التابعة للجنوب والشمال، من ذوي الأطماع المحلية اليمنية، وبالاعتماد على الإرادة الخارجية الداعمة لهم بالمال والسلاح والإعلام، لخلق صخب وضجيج يوحي للمتابع في الداخل والخارج بأنّ الصراع في حضرموت بين سلطات شرعية ومجاميع متمردة. بينما الهدف الحقيقي هو فرض سلطة (حكيمدار) جديد، يكون مقيمًا في أبوظبي، أو نازحًا من الجنوب أو الشمال استوطن حضرموت، ليكون حاكمًا جديدًا يحقق للقوى الطامعة والاستعمارية الحديثة أهدافها في السيطرة على ثروات ومقدرات حضرموت، رغمًا عن أنف الـ (25) مليون حضرمي في الداخل والخارج، الذين يتفرجون على مأساة حضرموت التاريخية وصراع الحضارم أصحاب الأرض مع قوى الأطماع الخارجية وأدواتهم المحلية.

فهل من صحوة ضمير؟!

إقرأ أيضاً للكاتب:

اضف تعليقك