كرب إل وتر.. موّحد اليمن الأول بقلم مأرب الورد

احتفظ حكام سبأ الأوائل بلقب المكرب (تُنطق بضم الميم وفتح الكاف وتشديد الراء)، وهو مصطلح مشتق من اللغة اليمنية القديمة من أصل الفعل (كرب) الذي يعني جمع أو حشد، مما يجعل المُكَرّب بمثابة المُوّحد ، الذي يتولى رئاسة الأحلاف القبلية، بخلاف الملك الذي يحكم قبيلة واحدة.

 

بداية ظهور حكم المكربين

 

ظهر نظام المكربين في معظم الدول اليمنية القديمة، مثل حضرموت وقتبان وأوسان، وسبأ، قبل أن ينتقل الحكم تدريجيا إلى نظام الملوك، لكن تفاصيل نشأته الأولى لا تزال غامضة، حيث تتباين التقديرات حول الفترة الزمنية التي حكم فيها المكربون. وقد أورد الدكتور جمال الشرجبي في كتابه “اليمن في عهد المكرب السبئي كرب إل وتر بن ذمر علي – القرن السابع قبل الميلاد”، الروايات المختلفة حول المسألة؛ فبينما تشير بعض المصادر إلى أن حكمهم امتد لنحو قرنين ونصف القرن (800 – 650 ق.م)، تذهب أخرى إلى أنه استمر ثلاثة قرون (750 – 450 ق.م)، وهناك مَن يرجّح القرن العاشر أو التاسع قبل الميلاد. وبحسب النقوش اليمنية القديمة، حكم سبأ سبعة عشر مكربا، لا تزال آثارهم المعمارية قائمة حتى اليوم، مثل معبد أوام (محرم بلقيس) ومعبد المقه بمحافظة مأرب، وجميعها تدل على قوة وازدهار حكمهم. كرب إل وتر: النسب ودلالة الاسم والحكم

 

ينتمي كرب إل وتر إلى سلالة حاكمة عريقة، فهو ابن ذمر علي وتر، وحفيد كرب إل، ويتألف اسمه، وفق القاموس السبئي، من ثلاثة مقاطع:  “كرب”: تعني البركة أو النعمة  “إل” أو “إيل”: تعني الإله أو المعبود “وتر”: تشير إلى الزيادة أو التعظيم وبناءً على ذلك، يفسّر الشرجبي اسمه بأنه يعني “من يصلي إلى الإله كثيرًا” أو “من أوقف نفسه لعبادة الإله”، مما يعكس الطابع الديني العميق لحكمه. تشير بعض المصادر إلى أن كرب إل وتر حكم خلال الفترة بين 620 و600 ق.م، حيث قضى العقد الأول من حكمه بلقب “المكرب”، قبل أن يتحول إلى ملك في العقد الأخير، وهو ما يعكس تطور النظام السياسي من الحكم القبلي الاتحادي إلى الملكية المركزية.

 

صلاحيات المكربين ودورهم السياسي والديني

 

وفقا للنقوش المسندية، كان المكرب الحاكم الأعلى في الدولة السبئية، يتولّى إدارة الشؤون السياسية، وسنّ القوانين، وإصدار التشريعات، كما كان قائدا عسكريا يقود الحملات الحربية لتوسيع نفوذ سبأ، فضلا عن دوره في تعزيز العقيدة السبئية، ويُمكن ملاحظة هذا الدور في نقوشه التي تدل على ذلك وتقوم على ثالوث مقدس: “الإله – الحاكم – الشعب”. أما في الجانب الديني، فقد مارس المكربون طقوسا مقدسة، مثل الصيد المقدس، حيث كانوا يقدّمون القرابين للآلهة عبر اصطياد حيوانات مقدسة. وعلى الرغم من أن الإله المقه كان المعبود الرئيسي في سبأ، إلا أن كرب إل وتر لم يفرضه على جميع المناطق، بل ترك لكل منطقة حرية ممارسة عبادتها الخاصة.

 

المشاريع العمرانية والإصلاحات الاقتصادية

 

شهد عهد كرب إل وتر ازدهارا اقتصاديا وحضاريا، من خلال تنفيذ المشاريع المعمارية الكبرى كمنشآت الري، والقصور، والمعابد والقلاع والأسوار، كما تذكر د. أسمهان الجرو، أستاذة التاريخ القديم بجامعة عدن، في كتابها “دراسات في التاريخ الحضاري لليمن القديم”، بالإضافة إلى مشاريع إصلاح الأراضي الزراعية وشق قنوات الري، مما أدى إلى تحسين الإنتاج الزراعي وتعزيز اقتصاد الدولة. والسؤال المستوحى من هذه التجربة: ماذا قدّم أولئك الذين يحكمون اليوم للشعب، وكيف سيخلّدهم التاريخ؟

 

توحيد اليمن تحت سلطة واحدة

 

منذ القرن الثامن قبل الميلاد، بدأت ملامح الدولة السبئية الموحدة تتبلور، فتحوّلت من مجرد اتحاد قبلي إلى كيان سياسي متكامل بفضل أربعة عوامل تذكرها الجرو وهي:

 

1-تطور الملكية الخاصة وتعدد أشكالها.

 

2-بناء المدن والعواصم والمراكز الإدارية.

 

3- إنشاء المعابد ومنشآت الري العظيمة.

 

4- بروز قوة عسكرية منظمة.

 

وقد عمل كرب إل وتر على توحيد البلاد تحت سلطة واحدة وإنهاء عصر الدويلات المستقلة من خلال نهج يجمع بين السلمي والعسكري، ففي الأول أقام تحالفا مع اتحاد قبائل سمعي في شمال الرحبة، وفي الثاني أخضع مملكة أوسان، التي كانت تشكل منافسا سياسيا، بالقوة وضم أراضيها.

 

بعد ذلك، انتهج سياسة جديدة تقوم على المؤاخاة والتعاون الوثيق بين أركان الدولة الثلاث؛ الإله، والملك والشعب، لضمان استقرار الدولة سياسيا واجتماعيا، ويتجلى ذلك في نقشه الذي يقول:”هذه هي المدن والأقاليم التي ملكها كرب إل وتر بن ذمر علي مكرب سبأ- في فترة حكمه للإله المقه ولسبأ عندما نظم كل قبيلة فجعل لكل منها إلها وحامياً وميثاقا وعهداً، وذبح للإله عثتر الذبائح (كقربان)، وأنار موضع (ترح)..”.

 

كان الدافع الأبرز وراء الحملات العسكرية التي قادها كرب إل وتر،  هو توحيد البلاد، ليس لمجرد تعزيز قوة دولته، وهو هدف مشروع ومفهوم، بل لإيمانه العميق بأن الوطن لا ينهض إلا بوحدته، فالوحدة كانت الركيزة الأساسية للتطور والازدهار، ويمكن فقط تخيّل كيف كان سيكون حال اليمن آنذاك لو لم يوحدها تحت راية دولة واحدة، أصبحت لاحقًا من أعظم وأقوى الحضارات.

 

إن الحفاظ على الثوابت الوطنية مسؤولية النخب أيضا، وكما أن الدفاع عن الجمهورية يُعد موقفا وطنيا، فإن الأمر ذاته ينطبق على الوحدة، التي تستدعي موقفا سياسيا وأخلاقيا واضحا، وهذه رسالة ينبغي أن يدركها من يطلقون على أنفسهم “الأقيال”، خاصة أولئك الذين يلتزمون الصمت أو يتخذون مواقف باهتة تجاه الوحدة، في حين أنهم الأجدر باستلهام تجربة المكرب كرب إل وتر والدفاع عن إرثه، ونتحدث هنا عن مواقف سياسية لا أكثر.

 

لقد أسهم عهد المكربين، وبالأخص فترة حكم كرب إل وتر، في وضع الأسس التي قامت عليها الدولة السبئية الموحدة، انتقل فيها اليمن من تحالفات قبلية متفرقة إلى كيان سياسي مركزي قوي، استطاع أن يفرض سيطرته بفضل مزيج من التحالفات السلمية، القوة العسكرية، والإصلاحات الاقتصادية في سبأ التي ستظل واحدة من أعظم الحضارات التي شهدتها الجزيرة العربية.

قم بمشاركة الخبر
واتساب
فيسبوك
تويتر
شاركنا رأيك بالتعليق في الأسفل
كرب إل وتر.. موّحد اليمن الأول بقلم مأرب الورد
تدني رواتب أساتذة الجامعة في حضرموت بقلم أ. د. خالد سالم باوزير 
نـسـاء الـضـوء بقلم غيداء علي
أهمية الحفاظ على هويتنا الحضرمية بقلم أ.د. خالد سالم باوزير 
قائد بحجم أمة .. بقلم عيدروس الخليفي
آخر الأخبار
المزيد